تُعدّ الانتخابات محطة مفصلية في حياة الشعوب، فهي ليست مجرد عملية إجرائية أو ممارسة شكلية، بل هي وسيلة لتجسيد إرادة الناس ورسم مستقبل أوطانهم. إنّ المشاركة الفعالة في الانتخابات هي تعبير صادق عن الوعي والمسؤولية، وعن الإحساس بأهمية أن يكون المواطن جزءًا من صناعة القرار لا متفرجًا على ما يجري من حوله.
لقد أكدت التجارب السابقة أنّ المقاطعة أو الانكفاء لا يغيّر من الواقع نحو الأفضل، بل يفتح الباب أمام الفاسدين والمتلاعبين ليتسللوا إلى مواقع القرار. ومن هنا تأتي خطورة التخاذل عن أداء هذا الواجب الوطني. فالانتخابات، في حقيقتها، ساحة من ساحات الجهاد المدني، حيث يُترجم المواطن إخلاصه وحرصه على وطنه من خلال صوته، تمامًا كما يترجم المجاهد إخلاصه من خلال التضحية في ميادين العز والشرف.
المرجعية الدينية العليا في العراق، وعلى رأسها سماحة السيد علي السيستاني (دام ظله)، كانت واضحة في مواقفها حين أصدرت بيانًا مهمًا قبل الانتخابات السابقة، شددت فيه على ضرورة اختيار “الأصلح والأكفأ” بعيدًا عن العواطف والانتماءات الضيقة. فقد دعت المرجعية إلى التدقيق في سير المرشحين، ومعرفة نزاهتهم وكفاءتهم، وعدم الانجرار وراء الشعارات البراقة أو المصالح الآنية. كما حذرت من إعادة انتخاب الفاسدين الذين أثبتوا فشلهم في إدارة البلاد وخيانة الأمانة.
هذا الموقف الحكيم يعكس وعيًا عميقًا بأهمية المرحلة، ويضع الكرة في ملعب الشعب ليكون هو المسؤول الأول عن رسم مستقبله. فحين يختار المواطن بعناية، فإنّه يسهم في إصلاح النظام السياسي وتقوية مؤسسات الدولة، أما إذا استسلم للخذلان أو باع صوته بثمن بخس، فإنّه يشارك في تكريس الفساد وإضاعة الفرصة التاريخية لبناء وطن قوي.
إنّ من يظن أنّ صوته لا قيمة له مخطئ، فالتاريخ يثبت أنّ أصواتًا قليلة رجّحت كفة التغيير في بلدان عديدة. والمشاركة الواسعة في الانتخابات تُضعف فرص التزوير والتلاعب، وتجعل من النتائج أكثر قربًا من إرادة الشعب الحقيقية. وعلى العكس، فإنّ العزوف عن الانتخابات يتيح المجال أمام جماعات منظمة قليلة العدد، لكنها نشطة ومتماسكة، لفرض خياراتها على الجميع.
المقاطعة ليست حلاً، بل هي هدية مجانية تُقدَّم إلى الفاسدين والمتربصين بالبلاد. إنّ من يقاطع الانتخابات يتنازل عن حقه بملء إرادته، ويترك الساحة فارغة لغيره ليقرر مصيره بدلاً عنه. والمجتمع الذي يسكت عن حقه في المشاركة السياسية، إنما يهيئ نفسه لمزيد من التدهور والظلم، لأنّ السكوت في مثل هذه المواطن يعني الرضا الضمني بما يجري.
من هنا، فإنّ الانتخابات ليست مجرد صندوق اقتراع، بل هي امتحان للضمير الجمعي، وفرصة لإظهار الوعي والمسؤولية. المشاركة فيها هي جهاد سلمي يكمّل ميادين الجهاد الأخرى، وهي رسالة إلى كل طامع في البلاد بأنّ الشعب يقظ ولن يسمح بسرقة مستقبله. وعلى كل فرد أن يسأل نفسه: هل أريد أن أكون شاهد زور على انحدار وطني، أم شريكًا في إنقاذه؟
إنّ الطريق نحو الإصلاح طويل، ولا يتحقق بخطوة واحدة، لكنّ كل صوت نزيه هو لبنة في بناء دولة عادلة وقوية. فلنحمل أصواتنا بأمانة، ولنجعلها سلاحًا في وجه الفاسدين، ولنعلم أنّ المقاطعة ليست سوى تخلٍّ عن المسؤولية، أما المشاركة الواعية فهي وفاء للعهد وحماية للأمانة.