منذ ان كتب المُفكر الإنكليزي توماس مور (١٤٧٨-١٥٣٥م) كتابه الـــ(يوتوبيا Utopia) عام ١٥١٦م، والذي يعني (اللامكان)، حتى تحول هذا المصطلح الى إيقونة فكرية لكل المشاريع المثالية سواء أكانت قبل توماس مور أم بعده، إذ أن الحديث عن اليوتوبيا هو حديث الباحثين عن الحالة المثالية التي يصعب تحقيقها وفق المعطيات الممكنة، وقد سعى مور الى إنتقاد الواقع الانكليزي المأزوم وقتها بحثاً عن آلية تجنبه ملاحقة السلطات بإجراءاتها العقابية القاسية، فصوَّر لنا جزيرة جميلة يعيش فيها الجميع بأمان، وتختفي فيها الصراعات، ويعيش الجميع داخلها في حياةٍ راغدةٍ هنيئة.
لقد شغلت فكرة الدولة المثالية، أو المجتمع المثالي، الكثير من الفلاسفة والمفكرين على طول الخط الانساني، وكلما إزداد شقاء الحياة الإجتماعية-السياسية، وتعاظمت محنُها، كلما إرتفعت مناسيب البحث عن الحياة المثالية التي تسودها الطمأنينة والسلام، وتختفي فيها التفاوتات الطبقية، والهرميات الاجتماعية، حيث يقوم كل فرد فيها بالدور الذي يضطلع فيه في ظل حالةٍ من الإنسجام الهرموني على طريقة الحياة البيولوجية.
ولأن اليوتوبيا أمر بعيد المنال، وصعب التحقق، يأتي المصطلح ليقدم إشارة نسقية مضمرة لإنتقاد الواقع المأساوي عبر تخيل مدينة فاضلة، أو جزيرة سعيدة، أي نمط من الحياة التي تختلف في بينتها ونظامها عن الواقع المأزوم الذي يرغب الفيلسوف أو المفكر في نقده وتشريحه، ومع كل هذا، بقي مبدأ النهاية السعيدة التي تؤمن بها الأغلبية الساحقة من الأديان والمذاهب والمنظومات الفكرية المختلفة مهيمناً بإقرار إمكانية الوصول الى الحياة المثالية في نهاية التاريخ الإنساني.
المُلفت في أمر الزيارة الأربعينية أنها تعكس جانباً جزئياً، أو لنقل صورة مصغرة، عن الحياة المثالية التي تعكس فكرة اليوتوبيا وهي تتجسد في الواقع، إذ يلاحظ وجود ما يتجاوز العشرين مليوناً من الزائرين من مختلف بقاع الدنيا، يقطعون مئات الكيلومترات سيراً على الأقدام، شباباً وشيوخاً، نساءً وأطفالاً، بأمنٍ وأمان، يأكلون وينامون، يُخدَمون ويُعالجون، في ظل خدمات مجتمعية طوعية متكاملة لما يفوق الأسبوعين من الزمن! أسبوعان تتوجه فيها بوصلة الوجود إلى الحسين الشهيد، تُحدثنا الروايات أن المرأة في ظل دولة العدل الإلهي للإمام المهدي (عج) تسير بأمان وبركة، وتزول الضغينة من قلوب العباد ….،
ألم نلاحظ الصورة المصغرة لهذه الصفات وغيرها خلال الزيارة الأربعينية؟ نعم، جميعنا شاهدنا تلك الصورة المثالية لحياة مثالية لمدة قليلة ببركة الإمام الحسين (ع)، إنها اليوتوبيا التي تتحقق أمام أعيننا بكل حيثياتها وتفاصيلها التي قرأنا عنها في الكتب، وحملتها تخيلات المفكرين لقرون مديدة، وننتظر أن تتحول هذه المدة القليلة التي نعايشها الى واقع مستمر في دولة الإمام المهدي (عج).