منذ عقود، ووزارة الكهرباء في العراق تحولت إلى واحدة من أكبر مصانع الإحباط الوطني، وإلى رمز من رموز الفشل المزمن الذي ينهش جسد الدولة. وزارة بلا رؤية، بلا تخطيط، بلا ضمير… لكنها وبقدرة قادر، متفوقة جدًا في فنون أخرى لا تُدرّس في الجامعات، ولا تُكتب في كتب الإدارة، لكنها محفوظة عن ظهر قلب في دفاتر الفاسدين: فنون سرقة المال العام، وفنون تقسيم الغنائم تحت غطاء “المقاولات” وفنون التسقيط السياسي .
وزارة الكهرباء اليوم ليست مجرد مؤسسة خدمية، بل هي سوق مزادات مفتوحة، فيها تُباع المشاريع وتُشترى العقود، ويتقاسم اللصوص الكعكة بدم بارد، ثم يخرجون علينا بكل وقاحة عبر الناطق الرسمي ليبرروا العجز والفشل بحجج أوهى من خيط العنكبوت. كل مرة نفس الأسطوانة المشروخة:
“ارتفاع درجات الحرارة”، “زيادة الطلب”، “مشاكل فنية طارئة”، “نقص في الغاز المستورد”. والحقيقة أن هذه الأعذار أصبحت مثل الطوابع القديمة، فقدت قيمتها ولم تعد تقنع أحدًا…والسؤال البديهي الذي يطرحه كل مواطن عراقي وهو يكتوي بحرّ الصيف: كيف لدولة صرفت مليارات الدولارات على الكهرباء أن تبقى حتى اليوم غارقة في الظلام؟ أين ذهبت تلك المليارات؟
الجواب بسيط ومعقد في آن واحد: ذهبت إلى جيوب المتحكمين، إلى خزائن الكروبات التي تمسك برقبة الوزارة من قمة الهرم إلى أصغر دائرة فيها، ذهبت إلى صفقات مشبوهة تُنفذ على الورق فقط، وإلى مقاولات لا ترى النور إلا في بيانات الصحف. هذه الوزارة لم تعد وزارة خدمات، بل أصبحت وزارة “المغانم”.
فيها كل شيء محسوب: المناصب موزعة على أساس الولاء الحزبي لا على أساس الكفاءة، القرارات تُتخذ بما يخدم المصالح الضيقة لا مصلحة الشعب، العقود تُمنح بناءً على من يدفع أكثر أو يشارك أكثر في الكعكة. ومن يجرؤ على كشف الفساد يُقصى فورًا، ومن يتحدث عن الحقيقة يُتهم بالتسييس أو التخريب. إننا اليوم في نهاية عام ٢٠٢٥، والعراق لا يزال يراوح مكانه في ملف الكهرباء، بل ربما تراجع إلى الوراء. العالم يتحدث عن الطاقات المتجددة،
والدول تبني محطات نووية سلمية، ونحن ما زلنا نتحدث عن “خطة خمسية” تلو “خطة خمسية” لا تنفذ منها إلا الاجتماعات والتصريحات. الكهرباء في العراق ليست مشكلة تقنية كما يحاولون إقناعنا، بل هي مشكلة إرادة سياسية وضمير أخلاقي ميت. أليس من المخزي أن دولة غنية بالنفط والغاز والشمس والأنهار، تعجز عن إنارة بيوت شعبها ليلًا؟
أليس من العار أن يستيقظ المواطن كل صباح ليحسب ساعات التجهيز، بدل أن يحسب إنجازات بلده؟ إن الفشل في ملف الكهرباء ليس عجزًا عن الحل، بل هو قرار بعدم الحل. نعم، قرار متعمد، لأن استمرار الأزمة يعني استمرار العقود والمناقصات الطارئة،
واستمرار الجيوب المنتفخة، واستمرار لعبة “الأزمة – الحل المؤقت – الأزمة مجددًا” التي أصبحت مصنعًا للثراء الحرام. إن الحديث عن وزارة الكهرباء هو الحديث عن مدرسة الفساد المتكاملة، حيث يُدرّس الطالب المبتدئ كيف يتحول مشروع وطني إلى فرصة للنهب، وكيف تلتف القوانين لتخدم الفاسدين بدل أن تحاسبهم، وكيف يُشترى الصمت بالتعيينات والهبات،
وكيف تُشغل الإعلام الرسمي في صناعة الوهم وتجميل القبيح. والمؤلم أكثر أن المواطن لم يعد يندهش. أصبحنا نتوقع الفشل كما نتوقع طلوع الشمس، واعتدنا على سماع نفس الكذبة بألف طريقة. لكن التاريخ لا يرحم، والشعوب قد تصبر، لكنها لا تنسى. سيأتي يوم يُفتح فيه هذا الملف الأسود، وستُقرأ أسماء الذين سرقوا قوت الناس ونورهم،
لا في محاضر البرلمان بل في صفحات العار. وليعلم الفاسدون أن الظلام الذي يفرضونه على الشعب اليوم، سيغرقهم هم أيضًا يوم تنقلب الموازين. فلا منصب يدوم، ولا سلطة تحمي، ولا جدار يحجب لعنات الناس. والكهرباء التي جعلوها لعنة على العراق، ستصبح شاهدة عليهم في سجل الخيانة الوطنية.